فصل: بَاب الِاجْتِهَاد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ:

أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصْغِي للهرة الإِناء.
هَذَا الحَدِيث لَهُ طَرِيقَانِ، أَحدهمَا: من طَرِيق جَابر، وَالثَّانِي: من طَرِيق عَائِشَة.
أما الأول: فَرَوَاهُ ابْن شاهين فِي تَارِيخه وناسخه ومنسوخه، من حَدِيث ابْن إِسْحَاق، عَن صَالح، عَن جَابر، قَالَ: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يضع الإِناء للسنور، فيلغ فِيهِ، ثمَّ يتَوَضَّأ من فَضْلِه».
وَابْن إِسْحَاق عَقَدتُ لَهُ فصلا فِي كتاب الصَّلَاة فليُنْظَر مِنْهُ.
وَأما الطَّرِيق الثَّانِي: فلهَا أَربع طرق:
أَجودهَا: رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه وَالْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته وَابْن شاهين فِي ناسخه ومنسوخه، من حَدِيث يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ، عَن عبد ربه بن سعيد، عَن أَبِيه، عَن عُرْوَة بن الزبير، عَن عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا قَالَت: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يمر بالهرة، فيصغي لَهَا الإِناء، فَتَشرب ثمَّ يتَوَضَّأ بفضلها».
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قَالَ أَبُو بكر النَّيْسَابُورِي: يَعْقُوب هَذَا هُوَ أَبُو يُوسُف القَاضِي، وَعبد ربه هُوَ عبد الله بن سعيد المَقْبُري، وَهُوَ ضَعِيف عِنْدهم بِمرَّة.
وَمَعْنى «يُصْغِي»: يمِيل تسهيلًا للشُّرْب عَلَيْهَا، وَمِنْه فقد صغت قُلُوبكُمَا، أَي: مالتا عَن الْحق.
الطَّرِيق الثَّانِي: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن مُحَمَّد بن عمر، عَن عبد الحميد بن عمرَان بن أبي أنس، عَن أَبِيه، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة: «أنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يصغي إِلَى الْهِرَّة الإِناء، حتَّى تشرب مِنْهُ، ثمَّ يتَوَضَّأ بفضلها».
مُحَمَّد بن عمر هُوَ الْوَاقِدِيّ، وَقد أَكثر القَوْل فِيهِ، وأفظع فِيهِ النَّسَائِيّ، فنسبه إِلَى وضع الحَدِيث.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن عبد الله بن سعيد، عَن أَبِيه، عَن أبي سَلمَة، عَن عَائِشَة، قَالَت: «رُبمَا رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يُكْفِىءُ الإِناء للسِنَّور حتَّى يشرب، ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ».
ذكره الشَّيْخ فِي الإِمام بِإِسْنَادِهِ إِلَيْهِ.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن أبي حنيفَة، عَن حَمَّاد، عَن إِبْرَاهِيم، عَن الشّعبِيّ، عَن عَائِشَة: «أنَّ رَسُول الله توضَّأ ذَات يَوْم، فَجَاءَت الْهِرَّة فَشَرِبت من المَاء، فتوضَّأ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ وَشرب مِنْهُ مَا بَقِي».
وَقد رُوي عَن عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا من طَرِيقين آخَرين: «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ بِفضل الْهِرَّة».
أَحدهمَا: عَن دَاوُد بن صَالح التَمَار، عَن أمه «أَن مولاتها أرسلتها بهريسة إِلَى عَائِشَة رَضِي اللهُ عَنْهُا، فَوَجَدتهَا تصلِّي، فَأَشَارَتْ إليَّ أَن ضعيها، فَجَاءَت هرة فَأكلت مِنْهَا، فَلَمَّا انصرفت أكلت من حَيْثُ أكلت الْهِرَّة، فَقَالَت: إِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إنَّها لَيست بِنَجس، إنَّما هِيَ من الطوافين عَلَيْكُم. وَقد رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يتوضَّأ بفضلها».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: تَفرَّد بِهِ عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي، عَن دَاوُد بن صَالح، عَن أمه بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ.
قُلْتُ: قَالَ أَحْمد فِي دَاوُد: لَا أعلم بِهِ بَأْسا. فَإِذا لَا يضر تفرُّده، لَكِن أمه مَجْهُولَة لَا يُعلَم لَهَا حَال، وَلِهَذَا قَالَ الْبَزَّار: لَا يثبت من جِهَة النَّقْل. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله: اخْتلف فِي هَذَا الحَدِيث، فرفعه قوم، وَوَقفه آخَرُونَ. وَاقْتَضَى كَلَامه أَن وَقفه هُوَ الصَّحِيح.
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجم شُيُوخه بِحَذْف أم دَاوُد، والإِتيان بِأَبِيهِ بدلهَا، من حَدِيث الدَّرَاورْدِي، عَن دَاوُد بن صَالح، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة مَرْفُوعا فِي الْهِرَّة: «إِنَّهَا لَيست بِنَجس».
وَصَالح بن دِينَار، ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن حَارِثَة- بِالْحَاء الْمُهْملَة، بعْدهَا ألف، ثمَّ رَاء مُهْملَة، ثمَّ ثاء مُثَلّثَة، ثمَّ هَاء- بن مُحَمَّد، عَن عمْرَة، عَن عَائِشَة، قَالَت: «كنت أتوضأ أَنا وَرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد، وَقد أَصَابَت مِنْهُ الْهِرَّة قبل ذَلِك».
رَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: لَا بَأْس بحارثة.
قُلْتُ: وضَعَّفه يَحْيَى، وَقَالَ النَّسَائِيّ: مَتْرُوك.
وَله طَرِيق ثَالِث: رَوَاهُ الْخَطِيب فِي تَارِيخه من حَدِيث سلم بن الْمُغيرَة الْأَزْدِيّ، نَا مُصعب بن ماهان، نَا سُفْيَان، عَن هِشَام، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة، قَالَت: «توضَّأت أَنا وَرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد، وَقد أصَابَتْه الْهِرَّة قبل ذَلِك»، ثمَّ قَالَ: تَفَرَّد بِهِ عَن سُفْيَان: مُصعب بن ماهان، وَلم أَرَه إلاَّ من حَدِيث سلم عَنهُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: سلم لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَله طَرِيق رَابِع: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أَصْغَر معاجمه، من حَدِيث جَعْفَر بن عَنْبَسَة الْكُوفِي، نَا عمر بن حَفْص الْمَكِّيّ، عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد، عَن أَبِيه، عَن جده عَلّي بن الْحُسَيْن، عَن أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: «خرج رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أَرض بِالْمَدِينَةِ- يُقَال لَهَا: بطحان- فَقَالَ: يَا أنس، اسكب لي وضُوءًا. فَسَكَبت لَهُ، فَلَمَّا قَضَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حَاجته، أقبل إِلَى الإِناء، وَقد أَتَى هِرٌّ فولغ فِي الإِناء، فَوقف لَهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقْفَة حتَّى شرب الهر، ثمَّ توضَّأ، فَذكرت لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الهر، فَقَالَ: يَا أنس، إِن الهِرَّ من متاعِ البيتِ، لن يُقَذِّرَ شَيْئا، وَلنْ يُنجسهُ».
قَالَ الطَّبَرَانِيّ: لم يَرْوِه عَن جَعْفَر بن عَنْبَسَة الْكُوفِي إلاَّ عمر بن حَفْص الْمَكِّيّ، وَلَا رَوَى عَن عَلّي بن الْحُسَيْن عَن أنس حَدِيثا غير هَذَا.
فإنْ قيل: قد ورد حَدِيث يُخَالف هَذِه الْأَحَادِيث، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «يُغسل من ولوغ الْكَلْب سبعا، وَمن ولوغ الْهِرَّة مرّة».
فَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا:- عَلَى تَقْدِير صِحَّته- أنَّ هَذِه اللَّفْظَة- وَهِي قَوْله: «وَمن ولوغٍ الْهِرَّة مرّة»- مدرجة فِي الحَدِيث من كَلَام أبي هُرَيْرَة، مَوْقُوفا عَلَيْهِ، لَيست من كَلَام رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَه الْبَيْهَقِيّ، وَغَيره من الْحفاظ.
الثَّانِي:- وَبِه أجَاب الإِمام الشَّافِعِي- أَن هَذَا الحَدِيث مَتْرُوك الظَّاهِر بالِاتِّفَاقِ؛ لِأَن ظَاهره يَقْتَضِي وجوب غسل الإِناء من ولوغ الْهِرَّة، وَلَا يجب ذَلِك بالإِجماع.
خاتمتان:
إِحْدَاهمَا: لَمَّا ذَكَر الإِمَام الرَّافِعِيّ الدَّلِيل عَلَى نَجَاسَة الْخمر قَالَ: أَلا ترَى أَن الشَّرْع حكم بِنَجَاسَة الْكلاب لَمَّا نهَى عَن مخالطتها، مُبَالغَة فِي الْمَنْع. انْتَهَى.
فَأَما حكمه بنجاستها؛ فقد عَلمته مِمَّا تقدَّم، وَأما نَهْيه عَن مخالطتها؛ فَهُوَ ثَابت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث سَالم، عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «مَن اقتنى كَلْبا، إلاَّ كلب صيد أَو مَاشِيَة، فإنَّه ينقص من أجره كل يَوْم قيراطان». قَالَ سَالم: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: «أَو كلب حرث» وَكَانَ صَاحب حرث. وَفِي رِوَايَة: «كل يَوْم قِيرَاط».
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي جَامع المسانيد: وَهِي من أَفْرَاد مُسلم.
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَمن حَدِيث سُفْيَان بن أبي زُهَيْر، وَقد صَحَّ الْأَمر بقتلهن، وكل ذَلِك يدل عَلَى النَّهْي عَن مخالطتهن.
الخاتمة الثَّانِيَة: لَمَّا ذَكَر الإِمام الرَّافِعِيّ أَن بَوْل الْمَأْكُول نجس، قَالَ: وَفِيه وَجه: أَنه طَاهِر، وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ. قَالَ: وَأَحَادِيثه مَشْهُورَة فِي الْبَاب مَعَ تَأْوِيلهَا ومعارضاتها.
فلنذكر طرفا مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ فَنَقُول:
بَوْل الْحَيَوَان الْمَأْكُول وروثه نجس عندنَا، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، وَغَيرهمَا.
وَقَالَ عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَالزهْرِيّ وَمَالك وسُفْيَان الثَّوْريّ وَزفر وَأحمد: بَوْله وروثه طاهران.
وَاخْتَارَ هَذَا القَوْل من أَصْحَابنَا: ابْن خُزَيْمَة، وَالرُّويَانِيّ، كَمَا ذكره الإِمام الرَّافِعِيّ، وَهُوَ قَول أبي سعيد الأصطخري.
وَعَن اللَّيْث وَمُحَمّد بن الْحسن: أَن بَوْل الْمَأْكُول طَاهِر دون روثه. وقَالَ أَبُو حنيفَة: ذَرْقُ الحَمَام طَاهِر.
احتجَّ من قَالَ بِالطَّهَارَةِ بِأَحَادِيث:
الأول: حَدِيث أنس رَضِي اللهُ عَنْهُ الْمُتَّفق عَلَى صِحَّته، قَالَ: «قدم نَاس من عُكْل أَو عرينة، فاجتووا الْمَدِينَة، فَأمر لَهُم النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بلِقاح، وَأمرهمْ أَن يشْربُوا من أبوالها وَأَلْبَانهَا».
الثَّانِي: عَن جَابر رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «مَا أُكِل لَحْمه، فَلَا بَأْس ببوله».
الثَّالِث: عَن الْبَراء بن عَازِب رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا بَأْس ببول مَا أكل لَحْمه» رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ.
واحتجَّ من قَالَ بِالنَّجَاسَةِ: بقول الله- تَعَالَى-: {وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث}، وَالْعرب تستخبث هَذَا، وبإطلاق الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الْوَارِدَة فِي تَعْذِيب من لَا يستنز مِنْهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانه، حَيْثُ ذكره المُصَنّف فِي بَاب الِاسْتِنْجَاء إِن شَاءَ الله- تَعَالَى.
وبالقياس عَلَى مَا لَا يُؤكل، وَعَلَى دم الْمَأْكُول.
وَالْجَوَاب عَن حَدِيث أنس: أَنه كَانَ للتداوي، وَهُوَ جَائِز بِجَمِيعِ النَّجَاسَات، سُوَى الْخمر والمسكرات، وَقَالَ الشَّافِعِي وَغَيره: إِنَّه مَنْسُوخ، إِذْ فِيهِ الْمثلَة، وَقد نهي بعد عَنْهَا.
لَكِن لَعَلَّ مُرَادهم الْعقُوبَة خَاصَّة، لَا جملَة مَا دلّ عَلَيْهِ من الْأَحْكَام.
وَعَن حَدِيث جَابر: أَنه ضَعِيف جدًّا، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ، فإنَّ فِي إِسْنَاده: عَمْرو بن الْحصين الْعقيلِيّ، وَهُوَ واهٍ جدًّا. وقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: ذَاهِب الحَدِيث، لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث. وَقَالَ الْأَزْدِيّ: ضَعِيف جدًّا، يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ. وَقَالَ ابْن عدي: حَدَّث عَن الثِّقَات بِغَيْر حَدِيث مُنكر، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك.
وَفِي إِسْنَاده أَيْضا: يَحْيَى بن الْعَلَاء أَبُو عَمْرو البَجلِيّ الرَّازِيّ، وَقد ضَعَّفوه جدًّا، كَانَ وَكِيع شَدِيد الْحمل عَلَيْهِ، وَقَالَ أَحْمد: كَذَاب، يضع الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى: لَيْسَ بِثِقَة. وَقَالَ عَمْرو بن عَلّي وَالنَّسَائِيّ والأزدي: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن عدي: الضعْف عَلَى حَدِيثه بَيِّن، وَأَحَادِيثه مَوْضُوعَات. وَقَالَ ابْن حبَان: ينْفَرد عَن الثِّقَات بالمقلوبات، لايجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَالْجَوَاب عَن حَدِيث الْبَراء بن عَازِب: أَنه ضَعِيف- أَيْضا- جدًّا، بل قَالَ ابْن حزم فِي كِتَابه المحلَّى: هُوَ خبر بَاطِل مَوْضُوع؛ لِأَن فِي إِسْنَاده سَوَّار بن مُصعب، وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث عِنْد جَمِيع أهل النَّقْل، مُتَّفق عَلَى ترك الرِّوَايَة عَنهُ، يروي الموضوعات.
وَمِمَّنْ ضعف هذَيْن الْحَدِيثين من الْحَنَابِلَة ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب التَّحْقِيق.
قُلْتُ: وَقد اختُلف عَلَى سَوَّار فِي إِسْنَاده، فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ عَن مطرف، عَن أبي الجهم، عَن الْبَراء مَرْفُوعا: «مَا أُكل لَحْمه، فَلَا بَأْس بسؤره».
وَهَذَا تَعْلِيل ثَان للْحَدِيث أَفَادَهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
آخر الْجُزْء الثَّالِث بِحَمْد الله ومَنِّه، يتلوه فِي الرَّابِع.

.بَاب الِاجْتِهَاد:

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
باب الِاجْتِهَاد:
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثا وَاحِدًا.
وَهُوَ: مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا، من رِوَايَة أبي قَتَادَة رَضِي اللهُ عَنْهُ «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ حَامِل أُمَامَة بنت زَيْنَب بنت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلأبي الْعَاصِ بن الرّبيع، فَإِذا قَامَ حملهَا، وَإِذا سجد وَضعهَا».
وَفِي رِوَايَة لمُسلم: «رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يصلِّي بِالنَّاسِ، وأمامة عَلَى عُنُقه- وَفِي رِوَايَة: عَلَى عَاتِقه- فَإِذا ركع وَضعهَا، وَإِذا قَامَ من السُّجُود أَعَادَهَا».
وَفِي رِوَايَة لَهُ: «يؤم النَّاس». وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنه كَانَ فِي الْمَسْجِد».
وَاسم أبي الْعَاصِ: مهشم، كَذَا ضَبطه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب. وَقَالَ صَاحب الْمُغنِي فِي غَرِيب الْمُهَذّب: مِقْسم- بِكَسْر الْمِيم، وَسُكُون الْقَاف- كَذَا ضَبطه. وَقيل: لَقِيط. وَقيل: يَاسر. وَقيل: الْقَاسِم.
وَهَذَا الْفِعْل مِنْهُ- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ- كَانَ قَلِيلا، فَلَا يقْدَح فِي صِحَة الصَّلَاة. وادَّعى بَعضهم أَن هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ. وَفِي ذَلِك نظر؛ لِأَنَّهُ لابد فِي ذَلِك من معرفَة المتقدِّم من المتأخِّر، وَلَا قدرَة لَهُ عَلَى ذَلِك. وادَّعى بَعضهم أَن ذَلِك كَانَ فِي النَّافِلَة. وَذَلِكَ مَرْدُود، لِأَن ظَاهر قَوْله: «رَأَيْته- عَلَيْهِ السَّلَام- يَؤُم النَّاس» فِي الصَّحِيح صَرِيح، أَو كَالصَّرِيحِ فِي الْفَرِيضَة. قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم.
قُلْتُ: بل ورد ذَلِك صَرِيحًا، فروَى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه أَن ذَلِك كَانَ فِي الظّهْر أَو الْعَصْر. وَرَوَى الزبير بن بكار فِي كتاب النَّسب، وَالطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه، عَن عَمْرو بن سليم: «أَن ذَلِك كَانَ فِي صَلَاة الصُّبْح»، فاستفده.
وادَّعى بَعضهم خُصُوصِيَّة ذَلِك برَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ لَا يُؤْمَن من الطِّفْل الْبَوْل، وَغير ذَلِك عَلَى حامله، وَقد يُعْصَم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ويَعْلم بسلامته. وَفِي ذَلِك نظر، فَأَي دَلِيل عَلَى الخصوصية؟.

.باب الْأَوَانِي:

ذكر رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ ثَلَاث عشر حَدِيثا:

.الحديث الأول:

«أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّ بشَاة ميتَة لميمونة، فَقَالَ: هَلاَّ أَخَذْتُم إهَابَها، فَدَبَغْتُموه، فانتفعتم بِهِ. فَقيل: إِنَّهَا ميتَة! فَقَالَ: أَيُّما إهَاب دُبغَ فقد طَهُر».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي صَحِيحَيْهِمَا، بِدُونِ اللَّفْظَة الْأَخِيرَة فِيهِ، وَبِدُون أَن الشَّاة لميمونة، وإنَّما هِيَ لمولاتها، من رِوَايَة ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهُما قَالَ: «تُصُدِّق عَلَى مولاة لميمونة بِشَاة، فَمَاتَتْ، فمرَّ بهَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: هَلاَّ أَخَذْتُم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم بِهِ؟ فَقَالُوا: إِنَّهَا ميتَة! فَقَالَ: إِنَّمَا حَرُم أكلهَا». هَذَا لفظ مُسلم. وَفِي رِوَايَة لَهُ: «هلاَّ انتفعتم بجلدها؟». وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَلا أَخَذْتُم إهابها فاستمتعتم بِهِ؟». وَفِي رِوَايَة: «أَلا انتفعتم بإهابها؟».
وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس، عَن مَيْمُونَة أَنَّهَا أخْبرته: «أنَّ داجنة كَانَت لبَعض نسَاء رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَاتَتْ، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أَخَذْتُم إهابها، فاستمتعتم بِهِ».
وَلَفظ رِوَايَة البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس: «وَجَدَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاة ميتَة، أُعطيتها مولاة لميمونة من الصَّدَقَة، فَقَالَ- عَلَيْهِ السَّلَام-: هَلاَّ انتفعتم بجلدها؟ قَالُوا: إِنَّهَا ميتَة! قَالَ: إِنَّمَا حرم أكلهَا».
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن ابْن عَبَّاس: «أَنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّ بِشَاة ميتَة، فَقَالَ: هَلاَّ استمتعتم بإهابها؟ قَالُوا: إِنَّهَا ميتَة! قَالَ: إِنَّمَا حرم أكلهَا».
وَفِي رِوَايَة لَهُ عَنهُ: «مرَّ- عَلَيْهِ السَّلَام- بِعَنْزٍ ميتَة، فَقَالَ: مَا عَلَى أَهلهَا لَو انتفعوا بإهابها».
وَلم يقل البُخَارِيّ فِي شَيْء من طرقه: «فدبغتموه»، كَمَا نَبَّه عَلَيْهِ عبد الْحق أَيْضا.
وَقد خَفِيَ عَلَى بعض الحفَّاظ- كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ- فَجعل هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد مُسلم، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْهُ، فقد رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع من صَحِيحه مِنْهَا: كتاب الزَّكَاة، فِي الصَّدَقَة عَلَى موَالِي أَزوَاج النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِاللَّفْظِ الأول، وَفِي كتاب الصَّيْد والذبائح، والْبيُوع بِاللَّفْظِ الثَّانِي.
وَرَوَى النَّسَائِيّ فِي سنَنه، من رِوَايَة ابْن عَبَّاس أَيْضا، قَالَ: «مرَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَاة لميمونة ميتَة، فَقَالَ: أَلا أَخَذْتُم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم بِهِ». وَإِسْنَاده صَحِيح، وَهَذِه الرِّوَايَة موافِقة لِمَا أوردهُ الإِمام الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب، من كَون الشَّاة كَانَت لميمونة.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الإِمام أَحْمد فِي مُسْنده، وَهَذَا لَفظه عَن ابْن عَبَّاس: «أَنه- عَلَيْهِ السَّلَام- مَرَّ بِشَاة ميتَة لميمونة، فَقَالَ: أَلا أخذُوا إهابها، فدبغوه، فانتفعوا بِهِ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّهَا ميتَة! فَقَالَ: إِنَّمَا حرم أكلهَا».
وَرَوَى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه مُنْفَردا بِهِ، فِي بَاب: من حلف لَا يشرب نبيذًا، من كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور، لَكِن عَن ابْن عَبَّاس، عَن سَوْدَة، قَالَت: «مَاتَت لنا شَاة، فدبغنا مَسْكَها، ثمَّ مَا زلنا نَنْبِذُ فِيهِ حتَّى صَار شَنًّا».
نعم فِي بعض نسخ البُخَارِيّ: عَن مَيْمُونَة، بدل سَوْدَة.
وَفِي رِوَايَة للبزار: «مَاتَت شَاة لميمونة، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا استمتعتم بإهابها، فإنَّ دباغ الْأَدِيم طهوره». وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهَا فِي أثْنَاء الحَدِيث السَّادِس من هَذَا الْبَاب، فِي الطَّرِيق الرَّابِع مِنْهُ، وَهِي أقرب الطّرق إِلَى مَا فِي الْكتاب.
وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن مَيْمُونَة، أَنَّهَا قَالَت لِابْنِ عَبَّاس: «إنَّ دَاجِنًا كَانَت لبَعض نسَاء رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أَخَذْتُم إهابها فاستمتعتم بِهِ». وَقد تقدّمت، وَالظَّاهِر أَن الْمُبْهم فِي هَذِه الرِّوَايَة مَا هُوَ مُفَسّر فِي رِوَايَة أَحْمد، وَالنَّسَائِيّ، وَالْبَزَّار.
نعم سَيَأْتِي قَرِيبا أنَّ سَوْدَة رَضِي اللهُ عَنْهُا وَقع لَهَا مثل هَذَا، فتوقفتُ فِي هَذَا الظَّاهِر.
ويتلخص من هَذَا كُله: أَن الرِّوَايَة الَّتِي ذكرهَا المُصَنّف: أَن الشَّاة لميمونة، صَحِيحَة مَوْجُودَة، وَقد غَلِطَ من غَلَّطَه فِي ذَلِك، وَأنكر عَلَيْهِ وَعَلَى غَيره من الْفُقَهَاء.
وَجَمَع الإِمام الرَّافِعِيّ فِي شرح الْمسند بَين هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَحْسَن جمع، فَقَالَ: «يُمكن أَن تكون الْقِصَّة وَاحِدَة، لكَون مولاتها كَانَت عِنْدهَا، وَمن خدمها، فَتَارَة نُسبت الشَّاة إِلَيْهَا، وَتارَة إِلَى مَيْمُونَة». وَهَذَا جمع متين.
وَمن الْفَوَائِد الْمُهِمَّات: أَنه قد جَاءَ فِي رِوَايَة صَحِيحَة، لَا شكّ وَلَا ارتياب فِي صِحَة سندها، وثقة رواتها: أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ هُوَ الْمُعْطِي الشَّاة لمولاة مَيْمُونَة- وَتَكون هَذِه الرِّوَايَة مفسرة لرِوَايَة الصَّحِيحَيْنِ الْمُتَقَدّمَة، فَإِنَّهَا وَردت مَبْنِيَّة للْمَفْعُول، حَيْثُ قَالَ: «تُصدق»- وَهِي مَا رَوَاهَا النَّسَائِيّ فِي سنَنه، من حَدِيث مَالك، عَن ابْن شهَاب، عَن عبيد الله بن عبد الله، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «مَرَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِشَاة ميتَة، كَانَ هُوَ أَعْطَاهَا مولاة لميمونة زوج النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: هلا انتفعتم بجلدها؟. فَقَالُوا: يَا رَسُول الله إنَّها ميتَة! فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّمَا حرم أكلهَا».
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي بِسَنَدِهِ كَذَلِك.
وَقد رُوِيَ نَحْو هَذَا فِي شَاة لسودة، فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ مَا تقدم، وَفِي مُسْند أَحْمد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «مَاتَت شَاة لسودة، فَقَالَت: يَا رَسُول الله مَاتَت فُلَانَة- يَعْنِي الشَّاة- قَالَ: فَهَلا أَخَذْتُم مسكها؟ قَالَت: أنأخذ مسك شَاة قد مَاتَ؟! فَقَالَ لَهَا: إِنَّمَا قَالَ الله: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما عَلَى طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحًا أَو لحم خِنْزِير}، فَإِنَّكُم لَا تطعمونه إِن تدبغوه فتنتفعوا بِهِ. قَالَت: فَأَرْسَلنَا إِلَيْهَا فسلخت مسكها، فدبغته، فاتخذت مِنْهُ قربَة، حتَّى تَخَرَّقت عِنْدهَا».
وَأخرجه ابْن حبَان أَيْضا فِي صَحِيحه بِمثلِهِ.
و«الإِهاب»: بِكَسْر الْهمزَة، جمعه: أُهُب: بِضَم الْهمزَة، وَالْهَاء، وأَهَب: بِفَتْحِهَا، لُغَتَانِ مشهورتان. وَلم يُجِزْ ابْن دُرَيْد سُوَى الْفَتْح.
وَاخْتلف أهل اللُّغَة فِيهِ، فَقَالَ إِمَام اللُّغَة والعربية أَبُو عبد الرَّحْمَن الْخَلِيل بن أَحْمد رَحِمَهُ اللَّهُ: الإِهاب هُوَ الْجلد قبل أَن يُدبغ، وَكَذَا ذكر أَبُو دَاوُد فِي سنَنه، وَحَكَاهُ عَن النَّضر بن شُمَيْل، وَلم يذكر غَيره، وَكَذَا حَكَاهُ الْجَوْهَرِي، وَآخَرُونَ من أهل اللُّغَة.
وَذكر الْأَزْهَرِي فِي شرح أَلْفَاظ الْمُخْتَصر، والخطابي، وَغَيرهمَا: أَنه الْجلد، وَلم يقيدوه بِمَا لم يدبغ. وَقَالَ القَزَّاز فِي كِتَابه جَامع اللُّغَة: «هُوَ الْجلد، سُمِّي بذلك مدبوغًا وَغير مدبوغ». وَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ كل جلد، وَقَالَ قوم: هُوَ الْجلد قبل أَن يدبغ.
وَقَوله: «طهر»، هُوَ بِفَتْح الْهَاء، وَضمّهَا، وَكسرهَا، ثَلَاث لُغَات حكاهن ابْن مَالك فِي مثلثه.

.الحديث الثَّانِي:

أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: «أَيُّما إهَاب دبغ فقد طَهر».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، يُروى من طرق:
أَحدهَا: رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْأُم، وَفِي مُسْنده، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن زيد بن أسلم، عَن عبد الرَّحْمَن بن وَعلة، عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: «سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول...» فَذكره بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره المُصَنّف سَوَاء.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ فِي جامعه، عَن قُتَيْبَة، عَن سُفْيَان بِهِ سَوَاء، ثمَّ قَالَ: «هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح». وصحَّحه ابْن حبَان أَيْضا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور. وَرَوَاهُ مُسلم، عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَمْرو النَّاقِد، عَن سُفْيَان بِهِ، وَلَفظه: «إِذا دُبِغ الإِهاب فقد طهر». وَلم يخرج البُخَارِيّ فِي صَحِيحه هَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي شرح الإِلمام: لَيْسَ تظهر لنا الْعلَّة فِي تَركه إلاَّ التوهُّم فِي أَن يكون ابْن وَعلة عِنْد البُخَارِيّ لم يبلغ الرُّتْبَة الَّتِي يَعْتَبِرهَا، وَلَيْسَ يُعلم فِي ابْن وَعلة مطْعن، وَهُوَ: عبد الرَّحْمَن بن السميفع بن وَعلة السبائي، وَقد رَوَى عَنهُ: أَبُو الْخَيْر مرْثَد بن عبد الله الْيَزنِي، وَيَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَزيد بن أسلم، فقد ارْتَفَعت الْجَهَالَة عَنهُ عَلَى مَا عُرِف من مَذَاهِب الْمُحدثين.
هَذَا وَقد ذكر الْحَافِظ أَبُو سعيد بن يُونُس فِي تَارِيخ مصر: أَنه كَانَ شريفًا بِمصْر فِي أَيَّامه، وَله وفادة عَلَى مُعَاوِيَة، وَصَارَ إِلَى أفريقية، وَبهَا مَسْجده، ومواليه. وَهَذِه شهرة شهيرة، عَلَى رِوَايَة الْجَمَاعَة عَنهُ، مَعَ تَخْرِيج مَالك لحديثه فِي الْمُوَطَّأ.
قُلْتُ: وَمَعَ تَوْثِيق أبي حَاتِم ابْن حبَان لَهُ، وَقَبله ابْن معِين، وَالْعجلِي، وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ. وَنقل عَن الإِمام أَحْمد: أَنه ذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: وَمن ابْن وَعلة؟.
وَهَذِه الطَّرِيقَة أولَى من الطَّرِيقَة الَّتِي سلكها الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين، أَعنِي: ذكر من وَثَّقَهُ، دون سرد تَارِيخه.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِي اللهُ عَنْهُما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر».
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: إِسْنَاده حسن.
قُلْتُ: فِي سَنَده مُحَمَّد بن عَقِيْل الْخُزَاعِيّ، وَلَا بَأْس بِهِ، وثَّقه النَّسَائِيّ. وَقَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم: ثِقَة، حَدّث بحديثين، لم يُتابع عَلَيْهِمَا. وَقَالَ ابْن حبَان فِي ثقاته: رُبمَا أَخطَأ، حدَّث بالعراق بِمِقْدَار عشرَة أَحَادِيث مَقْلُوبَة. قَالَ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان: وتَفَرَّد بِهَذَا الحَدِيث.
قُلْتُ: قد سَرقه مِنْهُ قطن بن إِبْرَاهِيم الْقشيرِي، النَّيْسَابُورِي، كَمَا قيل. فطالبوه بِأَصْلِهِ، فَأخْرج جُزْءا، وَقد كتبوه عَلَى حَاشِيَته، وَلِهَذَا ترك مُسلم الِاحْتِجَاج بحَديثه.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن جَابر بن عبد الله رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر».
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي تلخيصه.